حلف وارسو
المبحث الأول
نشأة وتنظيم حلف وارسو
أولاً: الأوضاع السياسية والعسكرية والتكتلات الدولية:
عاش العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل مناخ الحرب الباردة، الذي يعني وجود حالة من العداء والتنافس الشديدين في العلاقات، بين الدول الغربية ذات النظم الديمقراطية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية (القطب الأمريكي)، بصفتها عظمى، وبين الدول الشرقية الشيوعية، بزعامة الاتحاد السوفييتي (القطب السوفييتي)؛ بسبب وجود تناقضات جذرية في المصالح، وتباين في المعتقدات الأيديولوجية، بين النظرية الماركسية اللينينية (الشيوعية)، والنظرية الديمقراطية (الحريات السياسية). وقد تميزت المراحل الأولى من تطور الحرب الباردة، بوجود الصراع العقائدي، والتهديد الدبلوماسي، والحرب النفسية والدعائية، والضغوط الاقتصادية، وتصاعد خطير في سباق التسلح، بشكل لم يسبق له مثيل، مع وجود توترات مستمرة في العلاقات بين القطبين وحلفائهما، انعكس في تفجر العديد من الحروب المحلية، أو المحدودة في مناطق من العالم، مثل كوريا والهند الصينية وفيتنام، والصراع العربي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وهي الحروب، التي من خلالها عمل كل من القطبين، على تحقيق مصالحه وممارسة إستراتيجية الحرب بالوكالة، في إطار تدخل محسوب العواقب، تجنبًا لنشوب صراع مسلح مباشر بينهما، له مخاطره الأمنية المدمرة، ولتجنب مخاطر خوض حرب نووية شاملة.
وهكذا اتضح، منذ عام 1947، أنه لا أمل في التوصل إلى تسوية سلمية بين القطبين، وأنه لا أمل، كذلك، في التوصل إلى اتفاق على توحيد ألمانيا، كفراغ سياسي، تسارع كل كتلة إلى ملئه. واندفعت كل منهما إلى داخل ألمانيا؛ حتى واجه كل منهما الآخر داخلها. فمن الشرق مد الاتحاد السوفييتي نفوذه إلى الثلث الشرقي من ألمانيا، إضافة إلى الجزء الواقع تحت سيطرة النمسا. وتخطى الاتحاد السوفييتي ذلك إلى السيطرة على الدول الشرقية الواقعة على حدوده الغربية: بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا.
وعلى الجانب الآخر، وقفت الدول الثلاث المتحالفة، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وقد احتلت القطاعات الباقية من ألمانيا، وكونت تحالفاً بينها. وعمد الاتحاد السوفييتي والدول المتحالفة معه، إلى وضع حاجز يحجب أوروبا الشرقية عن الغرب كله، ذلك الحاجز الوهمي، الذي أطلق عليه الغربيون اسم "الستار الحديدي".
وهكذا برز، بين من كانوا حلفاء الأمس، إبان الحرب العالمية الثانية، نظام عالمي ثنائي القطبية Bipolar System، وهو يعني وجود قطبين متفوقين في مراكز القوى السياسية العالمية، يحيط بكل منهما عدد من الدول التابعة، التي تقلّ إمكاناتها كثيرًا عن إمكانات القوتين العظميين؛ لتتشكل إستراتيجية الأحلاف السياسية العسكرية، في توافق مع نظم التكتلات الاقتصادية[1].
وبدأ الصراع يشتعل منذ 5 مارس 1946، عندما صرّح ونستون تشرشل، رئيس وزراء إنجلترا، بتأييد من الرئيس الأمريكي ترومان، أنه أصبح مقتنعاً تماماً أن الروس لا يحترمون إلا القوة، ومن ثم، يجب على الشعوب الناطقة بالإنجليزية، أن تتحد؛ لمنع أي مغامرة توسعية، يقدم عليها جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفييتي.
ثم تفاقمت الخلافات، حين بدأت الولايات المتحدة مع دول أوروبا، مشروع "مارشال"، ودفعت بمقتضاه أموالاً طائلة، في شكل مساعدات مجانية وافرة؛ لسد العجز في موازين مدفوعات الدول الأوروبية الغربية. ورد الاتحاد السوفييتي، بحملة ضد مشروع مارشال، متهماً الولايات المتحدة بمحاولة السيطرة على دول أوروبا اقتصادياً، وسياسياً، بهدف فرض الحصار على الاتحاد السوفييتي.
وأنشأت موسكو مكتب الاستعلامات الشيوعي، أو الكومينفورم، وهو يعد منظمة فرض، ستالين، من خلالها، سيطرته على دول أوروبا الشرقية، والأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية. وكان مشروع مارشال والكومينفورم هما السبب الأساسي في تقسيم أوروبا، إلى معسكرين متصارعين. ثم جاءت أول خطوة، اتخذها الحلفاء لتنظيم الدفاع ضد الدول الشيوعية، وهي تأسيس حلف شمال الأطلسي، في 4 أبريل 1949م، من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبرج، والنرويج، والدانمرك، وأيسلندا، وإيطاليا، والبرتغال. ونص ميثاقه على أن أي هجوم مسلح على أي دولة من هذه الدول، أو أي دولة في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يعد عدواناً عليها جميعاً. وأعقب توقيع حلف شمال الأطلسي، اتفاقات ثنائية: مع اليابان عام 1950، والفلبين عام 1951، وكوريا عام 1953، والصين الوطنية عام 1954، وأستراليا ونيوزلندا عام 1951، واتفاقية دفاع مشترك مع كل من إيران وتركيا وباكستان عام 1959، وغيرها.
ثانياً: نشأة حلف وارسو Warsaw Pact:
في 5 مارس 1953، تُوفي جوزيف ستالين، وبدأت مرحلة جمود نسبي في مناخ الحرب الباردة؛ ففي ذلك الوقت، كانت الحرب المشتعلة في الصين، منذ عشرين عاماً، قد انتهت بسيطرة الشيوعيين على السلطة، وإعلان ماوتسي تونج إنشاء الجمهورية الشعبية الصينية، في سبتمبر 1949، ولجأ معارضه شان كي تشك إلى فورموزا، واستمر يمثل جمهورية الصين الوطنية، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد فترة وجيزة من الانتصار الشيوعي في الصين، بدأت حرب كوريا؛ عندما عبرت القوات الكورية الشمالية الشيوعية، في 25 يونيه 1950، الحدود، وتوغلت في أراضي كوريا الجنوبية، وباءت محاولات التفاوض كلها بالفشل، إلى أن مات ستالين، فبدأ مسار المفاوضات يتغير، في ظل الانفراج. وصرح جورجي مالينكوف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي، في 15 مارس 1953، بأنه: "لا يوجد، فيما يخص علاقتنا مع الدول جميعاً، أي موضوع يثير النزاع، أو غير قابل للحل بالوسائل السلمية، والاتفاق المتبادل مع الدول المعنية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية". وعقب ذلك طلبت موسكو، من الولايات المتحدة الأمريكية، الإسراع في المفاوضات، حول مسألة الهدنة الكورية، إلى أن تم التوقيع عليها في شهر أغسطس 1953. كذلك كفت الحكومة السوفييتية عن مطالبها الإقليمية في تركيا، ومدت يد الصداقة لكل من تركيا واليونان، وأعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وتبادلت السفراء مع يوغوسلافيا واليونان، وتحدثت عن الهند بلهجة هادئة ودود، وبدأت تتقارب مع اليابان، وتثني على الرأي العام البريطاني. ووقّع الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، وإنجلترا، وفرنسا، اتفاقية في فيينا، عاصمة النمسا، في 15 مايو 1955، تنص على سحب الجيوش السوفييتية من النمسا، بشرط أن تُعلن النمسا دولة محايدة، ولا تنضم إلى تحالف أوروبا الغربية، ولا إلى أي حلف عسكري آخر.
في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه الأحداث، التي تبشر بانفراج دولي على صعيد الحرب الباردة، كانت الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، تتابع المفاوضات، حول توسيع حلف الدول الأوروبية، الذي بدأ في بروكسل وانتهى بإعلان حلف شمال الأطلسي. وبين 12 و 23 أكتوبر 1954، نُشر مشروع معاهدة وحدة دول أوروبا الغربية في باريس ولندن؛ فكان، على الاتحاد السوفيتي، أن يواجه هذا الحدث الجديد، الذي كان يدعو إلى إدخال ألمانيا الغربية في هذه الوحدة، والسماح لها بالتسلح. فدعا إلى مؤتمر يعقد في موسكو بين 29 نوفمبر و2 ديسمبر، حول الأمن الأوروبي. وشملت هذه الدعوة فرنسا وإنجلترا وإيطاليا. وبما أن الدول الأوروبية الغربية لم تحضر المؤتمر، أعلنت دول أوروبا الشرقية أنَّها، إذا أُقرّت معاهدة الوحدة الغربية، ستتخذ إجراءات مشتركة، تتعلق بتنظيم وتوحيد قيادة قواها العسكرية. وفي أوائل مايو 1955، أَقرّت، معاهدةَ الوحدة، جميعُ الدول الغربية المشتركة فيها. فما كان من الاتحاد السوفيتي إلا أن أعلن بطلان المعاهدات، التي سبق أن ارتبط بها مع إنجلترا 1942، وفرنسا 1944. وبين 11 و14 مايو، عُقد في وارسو، عاصمة بولونيا، مؤتمر ضم دول الكتلة الشرقية: الاتحاد السوفيتي، وبولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية، ورومانيا، وبلغاريا، وألبانيا، والمجر، صدر على إثره اتفاق تعاون ومساعدة متبادلة، وتوحيد القيادة العسكرية، بين تلك الدول. وهكذا، تشكل حلف وارسو في مواجهة حلف شمالي الأطلسي؛ وذلك لاستكمال عدد من المعاهدات الثنائية، التي كانت تربط بين جميع الدول الأعضاء، باستثناء ألبانيا، التي لم توقع أي معاهدة ثنائية، مع أي من الدول المذكورة. ورومانيا، التي لم توقع معاهدة ثنائية مع ألمانيا الشرقية.
والتسمية الرسمية للحلف هي "حلف الصداقة والمساعدة والتعاون". وفي البداية، كان القرار أن يستمر الحلف، لمدة 20 عاماً، على أن تمدد هذه الفترة، لمدة عشرة أعوام أخرى، إذا وافقت الدول الأعضاء على ذلك. ينص الاتفاق على تشكيل قيادة عسكرية موحدة لقوات الدول المشتركة، وعلى مرابطة وحدات سوفييتية في أراضي الدول المشتركة.
كان الحلف أحد أهم الخطوات، التي قام بها كل من نيقولاي بولغانين ونيكيتا خروتشوف، بعد توليهما السلطة في أوائل العام 1955؛ وجاء رداً على اتفاق باريس، وقبول ألمانيا الغربية في حلف شمالي الأطلسي، في 9 مايو 1955. وجاء في البيان السوفيتي عن الدوافع، التي حدت بدول الكتلة الشرقية، إلى تشكيل الحلف، أن الأطراف الموقعة كانت قد وافقت على الامتناع عن استخدام العنف أو التهديد باستخدامه، طبقاً للوائح الأمم المتحدة. إلا أن إعادة تسليح ألمانيا الغربية، بموجب اتفاق باريس، يمثل تهديداً للدول المحبة للسلام.
انسحبت ألبانيا من الحلف، عام 1968؛ فأصبح أعضاؤه سبع دول فقط، في مقابل 15 دولة أعضاء حلف الناتو، وبقاء 13 دولة غير منحازة. (أُنظر خريطة التكتلات الدولية في أوروبا).
اقتصرت مهام حلف وارسو على الدفاع عن المناطق الأوروبية (أُنظر خريطة اتجاهات عمل حلف وارسو)، للدول الأعضاء، بما يستثنى المناطق السوفيتية الآسيوية. ولكن في الحقيقة، وكما يظهر من خريطة أوروبا، يبدو واضحاً أن دول أوروبا الشرقية، تمثل خطاً دفاعياً متقدماً عن المناطق السوفيتية الآسيوية؛ إذ يوجد تلاحم واتصال بري، بين عمق دول أوروبا الشرقية مع المناطق السوفيتية الآسيوية. ومن ثم فإن الدفاع عن المناطق السوفيتية الآسيوية واقع قائم، بحكم التجاور الجغرافي بينهما، ولو لم يُنص عليه.
جاء قيام حلف وارسو تعزيزاً للمعاهدات الثنائية الأمنية، بين الاتحاد السوفييتي من جهة، وكل من بلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا، الشرقية، وبولندا، والمجر، ورومانيا من جهة أخرى، إضافة إلى وجود معاهدات مماثلة فيما بينها. وهذا يعنى أن الإجراءات الدفاعية الأمنية، في أوروبا الشرقية، لا تقوم فقط على نصوص حلف وارسو، بل على شبكة متكاملة من العلاقات الثنائية المترابطة، تشكل ركيزة أساسية، في منظومة هذا التحالف، وأن حلف وارسو، من هذا الواقع، يمثل نظاماً سياسياً أمنياً للمحافظة على النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، ويهدف، أيضاً، إلى استمرار تقسيم ألمانيا، وعدم السماح بوحدتها. وهو ما يتوافق مع هدف المعسكر الغربي كذلك، ويشكل حالة التوازن الإستراتيجي بين المعسكرين، في ظل الحرب الباردة.
وأضفى قيام حلف وارسو المشروعية على وجود القوات السوفيتية، على أراضى دول أوروبا الشرقية، من منطلق دفاعي أمنى، في إطار التحالف، والمحافظة على دول أوروبا الشرقية، في قبضة الاتحاد السوفييتي، وخاضعة له، بحكم عقيدة أيديولوجية واحدة، تجمع بينهم، وهي الشيوعية الماركسية. وهذا ما جعل للاتحاد السوفييتي حق الوجود العسكري لقواته على أرض دول صديقة، وعزز القدرات الدفاعية لدول أوروبا الشرقية، في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، بنظمها الغربية الرأسمالية والديموقراطية، التي مثلت تهديداً أمنياً قوياً لدول حلف وارسو، يجب مواجهته بحشد القدرات العسكرية؛ لدرء أي عدوان محتمل على أوروبا الشرقية.
المبحث الأول
نشأة وتنظيم حلف وارسو
أولاً: الأوضاع السياسية والعسكرية والتكتلات الدولية:
عاش العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل مناخ الحرب الباردة، الذي يعني وجود حالة من العداء والتنافس الشديدين في العلاقات، بين الدول الغربية ذات النظم الديمقراطية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية (القطب الأمريكي)، بصفتها عظمى، وبين الدول الشرقية الشيوعية، بزعامة الاتحاد السوفييتي (القطب السوفييتي)؛ بسبب وجود تناقضات جذرية في المصالح، وتباين في المعتقدات الأيديولوجية، بين النظرية الماركسية اللينينية (الشيوعية)، والنظرية الديمقراطية (الحريات السياسية). وقد تميزت المراحل الأولى من تطور الحرب الباردة، بوجود الصراع العقائدي، والتهديد الدبلوماسي، والحرب النفسية والدعائية، والضغوط الاقتصادية، وتصاعد خطير في سباق التسلح، بشكل لم يسبق له مثيل، مع وجود توترات مستمرة في العلاقات بين القطبين وحلفائهما، انعكس في تفجر العديد من الحروب المحلية، أو المحدودة في مناطق من العالم، مثل كوريا والهند الصينية وفيتنام، والصراع العربي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وهي الحروب، التي من خلالها عمل كل من القطبين، على تحقيق مصالحه وممارسة إستراتيجية الحرب بالوكالة، في إطار تدخل محسوب العواقب، تجنبًا لنشوب صراع مسلح مباشر بينهما، له مخاطره الأمنية المدمرة، ولتجنب مخاطر خوض حرب نووية شاملة.
وهكذا اتضح، منذ عام 1947، أنه لا أمل في التوصل إلى تسوية سلمية بين القطبين، وأنه لا أمل، كذلك، في التوصل إلى اتفاق على توحيد ألمانيا، كفراغ سياسي، تسارع كل كتلة إلى ملئه. واندفعت كل منهما إلى داخل ألمانيا؛ حتى واجه كل منهما الآخر داخلها. فمن الشرق مد الاتحاد السوفييتي نفوذه إلى الثلث الشرقي من ألمانيا، إضافة إلى الجزء الواقع تحت سيطرة النمسا. وتخطى الاتحاد السوفييتي ذلك إلى السيطرة على الدول الشرقية الواقعة على حدوده الغربية: بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا.
وعلى الجانب الآخر، وقفت الدول الثلاث المتحالفة، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وقد احتلت القطاعات الباقية من ألمانيا، وكونت تحالفاً بينها. وعمد الاتحاد السوفييتي والدول المتحالفة معه، إلى وضع حاجز يحجب أوروبا الشرقية عن الغرب كله، ذلك الحاجز الوهمي، الذي أطلق عليه الغربيون اسم "الستار الحديدي".
وهكذا برز، بين من كانوا حلفاء الأمس، إبان الحرب العالمية الثانية، نظام عالمي ثنائي القطبية Bipolar System، وهو يعني وجود قطبين متفوقين في مراكز القوى السياسية العالمية، يحيط بكل منهما عدد من الدول التابعة، التي تقلّ إمكاناتها كثيرًا عن إمكانات القوتين العظميين؛ لتتشكل إستراتيجية الأحلاف السياسية العسكرية، في توافق مع نظم التكتلات الاقتصادية[1].
وبدأ الصراع يشتعل منذ 5 مارس 1946، عندما صرّح ونستون تشرشل، رئيس وزراء إنجلترا، بتأييد من الرئيس الأمريكي ترومان، أنه أصبح مقتنعاً تماماً أن الروس لا يحترمون إلا القوة، ومن ثم، يجب على الشعوب الناطقة بالإنجليزية، أن تتحد؛ لمنع أي مغامرة توسعية، يقدم عليها جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفييتي.
ثم تفاقمت الخلافات، حين بدأت الولايات المتحدة مع دول أوروبا، مشروع "مارشال"، ودفعت بمقتضاه أموالاً طائلة، في شكل مساعدات مجانية وافرة؛ لسد العجز في موازين مدفوعات الدول الأوروبية الغربية. ورد الاتحاد السوفييتي، بحملة ضد مشروع مارشال، متهماً الولايات المتحدة بمحاولة السيطرة على دول أوروبا اقتصادياً، وسياسياً، بهدف فرض الحصار على الاتحاد السوفييتي.
وأنشأت موسكو مكتب الاستعلامات الشيوعي، أو الكومينفورم، وهو يعد منظمة فرض، ستالين، من خلالها، سيطرته على دول أوروبا الشرقية، والأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية. وكان مشروع مارشال والكومينفورم هما السبب الأساسي في تقسيم أوروبا، إلى معسكرين متصارعين. ثم جاءت أول خطوة، اتخذها الحلفاء لتنظيم الدفاع ضد الدول الشيوعية، وهي تأسيس حلف شمال الأطلسي، في 4 أبريل 1949م، من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبرج، والنرويج، والدانمرك، وأيسلندا، وإيطاليا، والبرتغال. ونص ميثاقه على أن أي هجوم مسلح على أي دولة من هذه الدول، أو أي دولة في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يعد عدواناً عليها جميعاً. وأعقب توقيع حلف شمال الأطلسي، اتفاقات ثنائية: مع اليابان عام 1950، والفلبين عام 1951، وكوريا عام 1953، والصين الوطنية عام 1954، وأستراليا ونيوزلندا عام 1951، واتفاقية دفاع مشترك مع كل من إيران وتركيا وباكستان عام 1959، وغيرها.
ثانياً: نشأة حلف وارسو Warsaw Pact:
في 5 مارس 1953، تُوفي جوزيف ستالين، وبدأت مرحلة جمود نسبي في مناخ الحرب الباردة؛ ففي ذلك الوقت، كانت الحرب المشتعلة في الصين، منذ عشرين عاماً، قد انتهت بسيطرة الشيوعيين على السلطة، وإعلان ماوتسي تونج إنشاء الجمهورية الشعبية الصينية، في سبتمبر 1949، ولجأ معارضه شان كي تشك إلى فورموزا، واستمر يمثل جمهورية الصين الوطنية، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد فترة وجيزة من الانتصار الشيوعي في الصين، بدأت حرب كوريا؛ عندما عبرت القوات الكورية الشمالية الشيوعية، في 25 يونيه 1950، الحدود، وتوغلت في أراضي كوريا الجنوبية، وباءت محاولات التفاوض كلها بالفشل، إلى أن مات ستالين، فبدأ مسار المفاوضات يتغير، في ظل الانفراج. وصرح جورجي مالينكوف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي، في 15 مارس 1953، بأنه: "لا يوجد، فيما يخص علاقتنا مع الدول جميعاً، أي موضوع يثير النزاع، أو غير قابل للحل بالوسائل السلمية، والاتفاق المتبادل مع الدول المعنية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية". وعقب ذلك طلبت موسكو، من الولايات المتحدة الأمريكية، الإسراع في المفاوضات، حول مسألة الهدنة الكورية، إلى أن تم التوقيع عليها في شهر أغسطس 1953. كذلك كفت الحكومة السوفييتية عن مطالبها الإقليمية في تركيا، ومدت يد الصداقة لكل من تركيا واليونان، وأعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وتبادلت السفراء مع يوغوسلافيا واليونان، وتحدثت عن الهند بلهجة هادئة ودود، وبدأت تتقارب مع اليابان، وتثني على الرأي العام البريطاني. ووقّع الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، وإنجلترا، وفرنسا، اتفاقية في فيينا، عاصمة النمسا، في 15 مايو 1955، تنص على سحب الجيوش السوفييتية من النمسا، بشرط أن تُعلن النمسا دولة محايدة، ولا تنضم إلى تحالف أوروبا الغربية، ولا إلى أي حلف عسكري آخر.
في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه الأحداث، التي تبشر بانفراج دولي على صعيد الحرب الباردة، كانت الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، تتابع المفاوضات، حول توسيع حلف الدول الأوروبية، الذي بدأ في بروكسل وانتهى بإعلان حلف شمال الأطلسي. وبين 12 و 23 أكتوبر 1954، نُشر مشروع معاهدة وحدة دول أوروبا الغربية في باريس ولندن؛ فكان، على الاتحاد السوفيتي، أن يواجه هذا الحدث الجديد، الذي كان يدعو إلى إدخال ألمانيا الغربية في هذه الوحدة، والسماح لها بالتسلح. فدعا إلى مؤتمر يعقد في موسكو بين 29 نوفمبر و2 ديسمبر، حول الأمن الأوروبي. وشملت هذه الدعوة فرنسا وإنجلترا وإيطاليا. وبما أن الدول الأوروبية الغربية لم تحضر المؤتمر، أعلنت دول أوروبا الشرقية أنَّها، إذا أُقرّت معاهدة الوحدة الغربية، ستتخذ إجراءات مشتركة، تتعلق بتنظيم وتوحيد قيادة قواها العسكرية. وفي أوائل مايو 1955، أَقرّت، معاهدةَ الوحدة، جميعُ الدول الغربية المشتركة فيها. فما كان من الاتحاد السوفيتي إلا أن أعلن بطلان المعاهدات، التي سبق أن ارتبط بها مع إنجلترا 1942، وفرنسا 1944. وبين 11 و14 مايو، عُقد في وارسو، عاصمة بولونيا، مؤتمر ضم دول الكتلة الشرقية: الاتحاد السوفيتي، وبولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية، ورومانيا، وبلغاريا، وألبانيا، والمجر، صدر على إثره اتفاق تعاون ومساعدة متبادلة، وتوحيد القيادة العسكرية، بين تلك الدول. وهكذا، تشكل حلف وارسو في مواجهة حلف شمالي الأطلسي؛ وذلك لاستكمال عدد من المعاهدات الثنائية، التي كانت تربط بين جميع الدول الأعضاء، باستثناء ألبانيا، التي لم توقع أي معاهدة ثنائية، مع أي من الدول المذكورة. ورومانيا، التي لم توقع معاهدة ثنائية مع ألمانيا الشرقية.
والتسمية الرسمية للحلف هي "حلف الصداقة والمساعدة والتعاون". وفي البداية، كان القرار أن يستمر الحلف، لمدة 20 عاماً، على أن تمدد هذه الفترة، لمدة عشرة أعوام أخرى، إذا وافقت الدول الأعضاء على ذلك. ينص الاتفاق على تشكيل قيادة عسكرية موحدة لقوات الدول المشتركة، وعلى مرابطة وحدات سوفييتية في أراضي الدول المشتركة.
كان الحلف أحد أهم الخطوات، التي قام بها كل من نيقولاي بولغانين ونيكيتا خروتشوف، بعد توليهما السلطة في أوائل العام 1955؛ وجاء رداً على اتفاق باريس، وقبول ألمانيا الغربية في حلف شمالي الأطلسي، في 9 مايو 1955. وجاء في البيان السوفيتي عن الدوافع، التي حدت بدول الكتلة الشرقية، إلى تشكيل الحلف، أن الأطراف الموقعة كانت قد وافقت على الامتناع عن استخدام العنف أو التهديد باستخدامه، طبقاً للوائح الأمم المتحدة. إلا أن إعادة تسليح ألمانيا الغربية، بموجب اتفاق باريس، يمثل تهديداً للدول المحبة للسلام.
انسحبت ألبانيا من الحلف، عام 1968؛ فأصبح أعضاؤه سبع دول فقط، في مقابل 15 دولة أعضاء حلف الناتو، وبقاء 13 دولة غير منحازة. (أُنظر خريطة التكتلات الدولية في أوروبا).
اقتصرت مهام حلف وارسو على الدفاع عن المناطق الأوروبية (أُنظر خريطة اتجاهات عمل حلف وارسو)، للدول الأعضاء، بما يستثنى المناطق السوفيتية الآسيوية. ولكن في الحقيقة، وكما يظهر من خريطة أوروبا، يبدو واضحاً أن دول أوروبا الشرقية، تمثل خطاً دفاعياً متقدماً عن المناطق السوفيتية الآسيوية؛ إذ يوجد تلاحم واتصال بري، بين عمق دول أوروبا الشرقية مع المناطق السوفيتية الآسيوية. ومن ثم فإن الدفاع عن المناطق السوفيتية الآسيوية واقع قائم، بحكم التجاور الجغرافي بينهما، ولو لم يُنص عليه.
جاء قيام حلف وارسو تعزيزاً للمعاهدات الثنائية الأمنية، بين الاتحاد السوفييتي من جهة، وكل من بلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا، الشرقية، وبولندا، والمجر، ورومانيا من جهة أخرى، إضافة إلى وجود معاهدات مماثلة فيما بينها. وهذا يعنى أن الإجراءات الدفاعية الأمنية، في أوروبا الشرقية، لا تقوم فقط على نصوص حلف وارسو، بل على شبكة متكاملة من العلاقات الثنائية المترابطة، تشكل ركيزة أساسية، في منظومة هذا التحالف، وأن حلف وارسو، من هذا الواقع، يمثل نظاماً سياسياً أمنياً للمحافظة على النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، ويهدف، أيضاً، إلى استمرار تقسيم ألمانيا، وعدم السماح بوحدتها. وهو ما يتوافق مع هدف المعسكر الغربي كذلك، ويشكل حالة التوازن الإستراتيجي بين المعسكرين، في ظل الحرب الباردة.
وأضفى قيام حلف وارسو المشروعية على وجود القوات السوفيتية، على أراضى دول أوروبا الشرقية، من منطلق دفاعي أمنى، في إطار التحالف، والمحافظة على دول أوروبا الشرقية، في قبضة الاتحاد السوفييتي، وخاضعة له، بحكم عقيدة أيديولوجية واحدة، تجمع بينهم، وهي الشيوعية الماركسية. وهذا ما جعل للاتحاد السوفييتي حق الوجود العسكري لقواته على أرض دول صديقة، وعزز القدرات الدفاعية لدول أوروبا الشرقية، في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، بنظمها الغربية الرأسمالية والديموقراطية، التي مثلت تهديداً أمنياً قوياً لدول حلف وارسو، يجب مواجهته بحشد القدرات العسكرية؛ لدرء أي عدوان محتمل على أوروبا الشرقية.
الأربعاء مايو 25, 2011 4:03 pm من طرف samii
» يصدرمرسومين لتنظيم الملكيات الزراعية ومخالفات
الأربعاء مايو 25, 2011 3:47 pm من طرف samii
» أهمية علم النفس والطب النفسي في القضاء
الجمعة يناير 14, 2011 8:07 am من طرف الشيماء
» طلب مساعدة
الخميس ديسمبر 23, 2010 6:05 pm من طرف د.أيمن
» هل يجوز اجراء الكشف والتحقيق المحلي من قبل القاضي العقاري في
الخميس يناير 14, 2010 11:41 pm من طرف sharinolo
» تجربة
السبت سبتمبر 19, 2009 8:00 pm من طرف السراب
» روابط الكتب في المكتبة القانونية
الثلاثاء يونيو 02, 2009 5:15 pm من طرف السراب
» دراسة في التاجر من الناحية القانونية
الإثنين مارس 23, 2009 5:50 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الاثبات الجنائي
الإثنين مارس 23, 2009 5:41 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التحكيم في اطار المنظمة العالمية للملكية الفكرية
الإثنين مارس 23, 2009 5:28 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التعاقد بطريقة المراسلة
الإثنين مارس 23, 2009 5:14 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الانواع الشائعة لعقود المعلوماتية
الإثنين مارس 23, 2009 5:09 am من طرف سيف العرب
» دراسة في التحكيم واهميته
الإثنين مارس 23, 2009 4:57 am من طرف سيف العرب
» الالتزامات المترتبة على البائع عند قيام عقد البيع
الإثنين مارس 23, 2009 4:50 am من طرف سيف العرب
» أسباب العنف والجرائم في تقرير الأمم المتحدة
الإثنين أبريل 28, 2008 3:19 am من طرف سيف العرب
» ظاهرة الادمان على المخدرات- علم اجرام - سورية
السبت أبريل 19, 2008 10:52 pm من طرف ابن سوريا
» الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل قانون السير والمركبات2008
الخميس أبريل 17, 2008 11:23 pm من طرف سيف العرب
» قانون الشركات 2008
الخميس أبريل 17, 2008 10:52 pm من طرف سيف العرب
» قانون المنافسة ومنع الاحتكار
الخميس أبريل 17, 2008 10:31 pm من طرف سيف العرب
» القانون رقم 4 للعام 2008 الخاص بالتحكيم
الخميس أبريل 17, 2008 10:23 pm من طرف سيف العرب