التعاقد بالمراسلة
بقلم الأستاذ سامي أفندي الجريديني المحامي
مقدمة
بقلم الأستاذ سامي أفندي الجريديني المحامي
مقدمة
لا يزال الإنسان يستعمل الكتابة من بدء وضعها لهذا اليوم للتعبير عن مقاصده وأفكاره وأكثر الناس استعمالاً لها جماعة المشتغلين بالتجارة وما شابهها من أعمال الأخذ والعطاء بين الناس في بلد واحد أو في بلدان مختلفة فهي عند المتراسلين مقام المشافهة لا بل إنهم يلجأون إليها مع استطاعتهم أن يتشافهوا ويتباحثوا ويجعلونها واسطة التعاقد بينهم. كانت هكذا في أيام الرومان وفي بدء الإسلام ولا تزال ليومنا هذا على ما هي عليه.
ولا يخفى على أحد ما يبرمه الناس وينقضونه بين بعضهم بالمكاتبة بواسطة البريد بما يسمونه رسائل أو كتب أو تحارير أو جوابات، فيكون إذًا من الأهمية بمكان البحث في العلاقة القانونية المتولدة من المكاتبة بين المكاتبين.
وما يصدق على رسائل البريد ينطبق على رسائل البرق (التلغرافات) أيضًا فإن الناس في معترك الحياة الهائل يطلبون السرعة في العمل وقد يعدون الدقائق من ذهب فللتلغراف في معاملاتهم القانونية شأن عظيم مثل شأن رسائل البريد على السواء.
وقد أضاف تقدم العلم والتمدن واسطة ثالثة للمخاطبة بين الناس البعيدين بعضهم عن بعض هي التلفون، وفي الواقع أن البحث في التعاقد بالتلفون لا يمتاز بشيء عن التعاقد بين شخصين جلس كل منهما في غرفة مجاورة للأخرى وأخذا بالمكالمة بدون أن يرى أحدهما الآخر، على أنه لا بد من ملاحظة أمرين في هذا النوع وهما محل وقوع خطأ في معرفة شخصية أحد المتعاقدين، فإنه لا يخفى أن أسلاك التلفون تربط المدن والبلدان بعضها ببعض فلا مندوحة من معرفة المكان المعتبر محلاً للعقد كما أنه قد يخطئ الرجل فيخاطب رجلاً آخر ليس بالمقصود فيفقد شرطًا من شروط التعاقد وهو معرفة حقيقة شخص المتعاقد معه، وفي هذه الحالة يرجع إلى القواعد الأولية المبينة بهذا الصدد في القانون المدني في أثناء الكلام على هذا النوع من الخطأ.
بحثنا في التعاقد بالمراسلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - المراسلة البريدية.
2 - المراسلة التلغرافية.
3 - المراسلة التليفونية.
والنوع الأول أهم ما يتجه إليه النظر والبحث.
القسم الأول: في المراسلات البريديةلسهولة البحث في هذا الموضوع لا بد من حصره في مباحث خمسة:
أولاً: جواز التعاقد بالمراسلة.
ثانيًا: شروط صحة هذا التعاقد.
ثالثًا: الوقت الذي يتم به التعاقد.
رابعًا: طرق إثبات هذا التعاقد.
خامسًا: تسجيل هذا النوع من التعاقد.
البحث الأول: جواز التعاقد بالمراسلة:
لا يخفى أن أساس كل تعاقد إيجاب وقبول فمتى توفر هذان الركنان عقد العقد صحيحًا، ولا يلزم لصحة العقد أن يكون المتعاقدان في مجلس واحد أو أن يختص كل منهما بنوع من الكلام بل يكفي أن تتحد إرادتهما وتتفق نيتهما على التعاقد فينتهي الأمر.
فاتحاد الإرادتين أو النيتين كما يكون بالمشافهة يكون بالمراسلة أيضًا، على أن التعاقد بالمراسلة لم ينل حظوة في عيون جميع رجال القانون لأن منهم من أنكر صحته ومنهم من حدد مدته فجعله ساريًا على المتعاقدين مدة حياتهما فإذا مات أحدهما لا يسري فعل العقد على الورثة، ولا يخفى ما في هذا القول من الضعف الذي لا يصح اتخاذه قياسًا كذلك ولهذا رفضه كبار الشراح وأجمعوا اليوم على أن التعاقد بالمراسلة مثله مثل كل تعاقد آخر على السواء فليس في القوانين ما يمنع هذا النوع من التعاقد أو ينقضه على أنه لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى اعتراض على هذا النوع من التعاقد أبداه العلامة توليه في مؤلفه في القانون المدني الفرنساوي عندما ذكر طرق إثبات التعاقد بين اثنين.
قال: إن القانون المدني يوجب في إثبات التعاقد المتبادل التعهدات أن يكون عدد صور العقد مطابقًا لعدد المتعاقدين فمهما كان عدد المتعاقدين يجب أن يكون عدد صور العقد بعددهم وليس الأمر كذلك في المراسلات المتبادلة بين تاجرين مثلاً فإنك إذا جمعت كلما كتب الفريقان جمعت عقدًا واحد مؤلفًا من أجزاء عديدة لا قيمة لأحدهما بدون الآخر فيكون لدينا حينئذٍ عقد عرفي لم يستوفِ الشروط القانونية فيما يختص بعدد الصور ولا يكون هناك ما يثبت هذا النوع من العقود.
على أن هذا الانتقاد على التعاقد بالمراسلة غير وجيه كما يظهر لأول وهلة لأنه ليس ما يمنع من إثبات هذا التعاقد بكل طرق الإثبات إذا لم يكن في اليد عدد من النسخ يطابق عدد المتعاقدين فيستطيع المكلف بالإثبات أن يحلف خصمه اليمين أو يثبت العقد بالبينة حاسبًا ما بيده من الأوراق بدء الثبوت بالكتابة.
وفضلاً عن ذلك فإن القانون المدني يوجب تعدد النسخ في (العقود العرفية المحتوية على تعهد متبادل بين الفريقين) ولا يوجب ذلك في التعهد نفسه الأمر الذي يدل بأجلى بيان على أن كل طرق الإثبات جائزة لإثبات العقد.
هذا فيما يختص بالعقود ذات الالتزامات المتبادلة وأما بقية التعهدات التي لا تفيد إلا فريقًا واحدًا فلا نزاع في أن المراسلات وحدها كافية لإثباتها.
على أنه لا يخفى أنه ليس من المحتم وجود توقيع الفريقين على عقد واحد لإلزامهما كليهما بمضمونه بل يكفي أن يكون عند كل منهما صورة بإمضاء الآخر وهذا كل ما يطلبه القانون إذ ليس من المعقول أن يحتم على صاحب الشأن أن يودع توقيعه على ورقة في حيازته هو حر في التصرف فيها، فما دام الأمر كذلك صح لنا أن نقيس الأمر على المراسلة بين الفريقين فإن لدى كل منهما شيئًا بتوقيع الآخر فإذا اجتمع الأمران كونا عقدًا واحدًا بين الاثنين.
صحيح أن ما في يد الواحد ليس صورة طبق الأصل لما في يد الآخر ولكن مضمون المراسلة يؤدي معنى الإيجاب من جهة والقبول من جهة أخرى وهذا كل المطلوب لصحة العقود فإن القانون لا يفرض ألفاظًا معينة في العقود بل يكتفي بالنية المراد بيانها والمعنى المطلوب إيراده وكل هذا متوفر على أتمه في المراسلة بين المتعاقدين.
بقي أمر آخر يكفي وحده لأن ينقض رأي (توليه) فإن المراسلة ليست من العقود العرفية أبدًا لأن العقد العرفي يحتوي وحده على كل التعهدات المتفق عليها ويوقع عليه المتعاقدان وليس الأمر كذلك في المراسلة لأن بيان ما يشترطه الواحد من المتعاقدين فقط يكون مكتوبًا وموقعًا عليه بإمضاء صاحبه، فالفريقان لم يقصدا بالمراسلة كتابة عقد بل توضيح الأفكار وعرض ما يقبله كل من الآخر، ولا نزاع بأن العقد العرفي نتيجة المباحثة وصفوة ما اتفق عليه المتعاقدان بعد طول الأخذ والعطاء.
بناءً على كل ما تقدم يرى المنصف أن المراسلة بالكتابة لم تكن مقصودة عندما اشترط الشارع المدني تعدد العقود بتعدد المتعاقدين لأنها ليست من العقود العرفية بل هي تكون تعهدًا إن لم يكن شفاهيًا فلفظيًا على الأقل.
ومما يزيد الأمر وضوحًا نصوص القانون التجاري في هذا الصدد فإنه يميز تمييزًا كليًا بين الإثبات بواسطة العقود العرفية وبين الإثبات بالمراسلة، ثم إنه ليس من المعقول أن يضع القانون حواجز منيعة في سبيل حرية التعاقد فيحدد ويحرم التعاقد بالمكاتبة أو يقلل اعتبارها، كلا بل الأمر بالعكس فإنه يجب تفسير روح التقنين تفسيرًا موافقًا لحرية التجارة وتنشيطها وملاحظة السرعة في التعاقد بالمراسلة تارة وبالتلغراف أخرى وكل هذه أمور لا يمكن أن يتوفر معها شرط وجود صورتين متماثلتين مع كل من المتعاقدين حتى يصح أن يكون عقدًا عرفيًا، وما دام القانون يجيز البيع الشفاهي مثلاً يجوز من باب أولى البيع بالمراسلة.
ولا يخفى أن مبدأ القانون التجاري ومبدأ القانون المدني واحد وكل ما في الأمر أن قانون التجارة أوضح بيانًا فيما يخص التعاقد بالكتابة فهو يعتبر مكاتبات التجار رابطة بينهم ويفرض فرضًا محتمًا وجوب أخذ صورة (كوبيا) من كل مراسلة تصدر وما ذلك إلا لجعلها دليلاً من أدلة الإثبات عند مضاهاتها على المراسلات التي ترد فلا نزاع إذًا في أنه يجوز للناس أن يتعاقدوا بالمراسلة كيفما شاؤوا، ولكن هل يجوز ذلك في كل العقود، فإننا إذا قررنا أن المراسلات المتبادلة بين المتعاقدين تحتوي على إيجاب وقبول الفريقين فيجب القول بأن كل عقد يشترط الإيجاب والقبول فقط لصحته كان صحيحًا فيخرج من ذلك العقود الرسمية فإنها لا يكفي فيها الإيجاب والقبول بل لا بد من وساطة موظف مختص ليكون العقد تامًا صحيحًا، فلا يجوز الرهن العقاري التأميني بالكتابة لأن القانون يقضي أن يكون هذا العقد رسميًا ومثله الهبة.
أما عقد الزواج فلا يصح بالمكاتبة عند الإفرنج الذين يسيرون على نصوص قانونهم المدني وأما التابعون للدولة العلية الخاضعون للقانون المصري فيجب اتباع نصوص الشريعة الإسلامية بالنظر للمسلمين منهم وأما المسيحيون فنصوص شرائعهم، أما الشريعة الإسلامية فتجيز التعاقد للزواج بالمراسلة شأن كل العقود المدنية، فإذا كتب رجل إلى امرأة يعرض عليها الزواج وأجابته راضية تم العقد صحيحًا (إذا توفرت فيه بقية شروط الزواج طبعًا) لا بل يجوز لوكيل الزوج أو الزوجة أن يتم العقد بالمراسلة أيضًا.
قلنا لا يجوز عقد الرهن العقاري التأميني بالمراسلة بل لا بد أن يكون رسميًا ولكن هل يجوز لأحد الناس أن يرسل كتابًا لآخر يوكله فيه بأن يعقد هذا الرهن.
إن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قد قررت مبدأ عدم جواز هذا التوكيل وذلك بعد طول تردد وبحث والحجة على ذلك هي أن القانون يفرض وجوب تداخل موظف عمومي عند قبول الراهن بالرهن، ولا نزاع بأن قبوله وقع عند إرساله توكيلاً أو تفويضًا بالكتابة وما زال هذا القبول قد وقع مخالفًا للقانون أي أنه لم يقع في حضرة الموظف العمومي المختص فلا عبرة به.
ومن المبادئ القانونية العمومية أنه إذا حتم القانون وجوب الرسمية في عقد من العقود فالتوكيل الذي يؤدي إلى عمل هذا العقد يجب أن يكون رسميًا أيضًا.
وهذا المبدأ مقرر في محاكمنا المصرية بلا نزاع فإن وكلاء الشركات والمصارف يبيعون ويشترون بالنيابة عن الشركات والمصارف بموجب توكيل رسمي محرر أمام كاتب العقود الرسمية.
أما في كل الظروف الأخرى فيجوز توكيل الغير بالمراسلة لعقد العقود وقد صرح القانون بذلك (بالمادة (9185) مدني فرنساوي) متبعًا بذلك العادات التي سار الناس عليها في معاملاتهم وخصوصًا في كتابتهم الرسائل المؤمن عليها.
وما يقال في العقود العرفية يقال أيضًا في الضمانة فإنها جائزة بالمراسلة يسري فعلها على الضامن والمضمون فلو كتب رجل لدائن يقول له كن مطمئنًا فيما يخص دينك على فلان وأن لا شيء يضيع عليك يعد هذا القول ضمانًا للمدين يجيز للدائن أن يتقاضى الكاتب بصفته ضامنًا.
وأما في القانون التجاري فإن إعطاء ضمانة مستقلة وبمقتضى المراسلة أمر جائز يعمل به كل التجار وهو ما يسمونه Aval.
عدل سابقا من قبل سيف العرب في الإثنين مارس 23, 2009 5:20 am عدل 1 مرات
الأربعاء مايو 25, 2011 4:03 pm من طرف samii
» يصدرمرسومين لتنظيم الملكيات الزراعية ومخالفات
الأربعاء مايو 25, 2011 3:47 pm من طرف samii
» أهمية علم النفس والطب النفسي في القضاء
الجمعة يناير 14, 2011 8:07 am من طرف الشيماء
» طلب مساعدة
الخميس ديسمبر 23, 2010 6:05 pm من طرف د.أيمن
» هل يجوز اجراء الكشف والتحقيق المحلي من قبل القاضي العقاري في
الخميس يناير 14, 2010 11:41 pm من طرف sharinolo
» تجربة
السبت سبتمبر 19, 2009 8:00 pm من طرف السراب
» روابط الكتب في المكتبة القانونية
الثلاثاء يونيو 02, 2009 5:15 pm من طرف السراب
» دراسة في التاجر من الناحية القانونية
الإثنين مارس 23, 2009 5:50 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الاثبات الجنائي
الإثنين مارس 23, 2009 5:41 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التحكيم في اطار المنظمة العالمية للملكية الفكرية
الإثنين مارس 23, 2009 5:28 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التعاقد بطريقة المراسلة
الإثنين مارس 23, 2009 5:14 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الانواع الشائعة لعقود المعلوماتية
الإثنين مارس 23, 2009 5:09 am من طرف سيف العرب
» دراسة في التحكيم واهميته
الإثنين مارس 23, 2009 4:57 am من طرف سيف العرب
» الالتزامات المترتبة على البائع عند قيام عقد البيع
الإثنين مارس 23, 2009 4:50 am من طرف سيف العرب
» أسباب العنف والجرائم في تقرير الأمم المتحدة
الإثنين أبريل 28, 2008 3:19 am من طرف سيف العرب
» ظاهرة الادمان على المخدرات- علم اجرام - سورية
السبت أبريل 19, 2008 10:52 pm من طرف ابن سوريا
» الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل قانون السير والمركبات2008
الخميس أبريل 17, 2008 11:23 pm من طرف سيف العرب
» قانون الشركات 2008
الخميس أبريل 17, 2008 10:52 pm من طرف سيف العرب
» قانون المنافسة ومنع الاحتكار
الخميس أبريل 17, 2008 10:31 pm من طرف سيف العرب
» القانون رقم 4 للعام 2008 الخاص بالتحكيم
الخميس أبريل 17, 2008 10:23 pm من طرف سيف العرب