زواج المسلمة بغير المسلم بين الفقه الإسلامي والقانون
تشهد المجتمعات الإسلامية المعاصرة صراعا حادّا بين أنصار الحداثة الذين يكرّسون
جهودهم لتجديد بنى المجتمع، وقراءة تراثه قراءة تراعي المستجدات، وتؤمن بضرورة
إقرار الحريّات الأساسية وإرساء حقوق الإنسان..
ودعاة العودة إلى "الإسلام الحق" الذين يلحون على أنّ اختيارهم هو السبيل الوحيد
لإنقاذ الأمّة وتحقيق الرقي، وذلك لأنّهم وحدهم العليمون بكنه النص. فلا غرو إذن أن
يكثر الجدل ويشتد النزاع حول جملة من القضايا المطروحة اليوم على الفكر الإسلامي
والتي باتت تتطلّب حلولا جذرية وحسما قاطعا. ولعلّ أهمّ هذه المسائل ما يترتب عن
ثنائية الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية. وقد اخترنا أن نتوقّف عند قضية زواج
المسلمة بغير المسلم، التي أثارت ردود فعل متباينة خاصة بعد أن صادقت مثلا تونس في
4 ماي 1967 على اتفاقية نيويورك التي بمقتضاها تمنح المرأة حريّة التزوج بمن تختاره
دون أي اعتبار للجنس والعنصر والدين . لقد انقسم المفكّرون المحدثون إلى فريقين:
فئة تمسّكت بموقف الإباحة ونادت بضرورة تمكين المرأة من حقها في اختيار شريك حياتها
دون وصاية مثلما هو الحال بالنسبة إلى الرجل ودعت إلى القضاء على التناقض الذي توسم
به جملة من النصوص التشريعية الحديثة. أمّا الفئة الثانية فقد أصرّت على تحريم هذا
النوع من الزواج محتجّة بنصوص قرآنية وأحكام فقهيّة وفتاوي، مغلّبة الاعتبارات
الاجتماعية على سواها. ولمّا كان أنصار الرفض المطلق لزواج المسلمة بغير المسلم هم
الذين يمثّلون أكبر نسبة فقد ارتأينا أن نقوم في القسم الأول من هذا البحث بعملية
استقراء للتراث التفسيري والفقهي علّنا نتوصّل إلى فهم الآفاق الفكرية والظروف
التاريخية التي أفرزت ظهور مثل تلك الآراء ثمّ عمدنا في قسم ثان إلى استعراض مواقف
المحدثين من مسألة زواج المسلمة بغير المسلم موضّحين الخلفيات التي تكمن وراءها.
أما القسم الثالث فقد خصصّناه لتحليل النتائج المترتبة عن ثنائية الفقة الإسلامي
والقوانين الوضعية.
1- مواقف المفسّرين والفقهاء من زواج المسلمة بغير المسلم
لا خفاء أنّ تلمّس أبعاد هذه المسألة يكون أوّلا بعرض ما احتوى عليه النصّ التأسيسي
من آيات تتعلق بزواج المسلمة بغير المسلم. جاء في القرآن: "وَلاَ تَنْكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" من الواضح أنّ الخطاب
في هذه الآية متعلّق أساسا بالمشركين والنهي فيه يتوجه إلى الرجال والنساء على حدّ
السواء، ولكن كيف كان فهم المفسّرين القدامى لهذه الآية ؟
كان اهتمام هؤلاء منصبا على القسم الأول من الآية، إذ أنّهم ذكروا سبب النزول
وفصّلوا القول في مفهوم المشركات، فإذا هنّ حسب البعض المشركات من أهل مكّة، أي من
أهل الحرب ، بينما ذهب آخرون إلى أنّ المشركات هنّ من العرب الذين ليس فيهم كتاب .
ورأت فئة أخرى أنّ المشركين هم عبدة الأوثان، واعتبرت فئة أخرى أنّ المشرك هو
الكافر سواء كان كتابيا، أو غيره . ولم يتوان الطبري عن الإشارة إلى اختلاف
المفسّرين حول هذه الآية فقال:"اختلف أهل التأويل في هذه الآية هل نزلت مرادا بها
كلّ مشركة أم مرادا بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها
شيء أم لا ؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تحريم نكاح كلّ مشركة على كلّ مسلم من أيّ
أجناس الشرك كانت: عابدة وثن كانت، أو كانت يهوديّة أونصرانية أومجوسيّة أوغيرهم من
أصناف الشرك ثم نسخ تحريم أهل الكتاب بقوله:"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أحلَّ لَهُمْ
قُلْ أحِلَّ لَكُمْ الطَيِّبَاتِ". " وفي مقابل ذلك لم يستوف أغلب القدماء القسم
الثاني من الآية حقّه من التحليل والتفحّص. إذ ذهب الطبري مثلا إلى أنّ الله "يعني
تعالى ذكره بذلك أنّ الله قد حرّم على المؤمنات أن ينكحنّ مشركا كائنا من كان
المشرك، ومن أصناف الشرك كان فلا تنكحوهنّ أيّها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام
عليكم، ولأنْ تزوجوهنّ من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله
خير لكم من أن تزوجوهنّ من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله وإن أعجبكم حسبه ونسبه"
. وكما هو بيّن لم يستثن الطبري أهل الكتاب من هذا الحكم، بل اعتبرهم من المشركين
الذين لا ينبغي إنكاحهم المؤمنات. وأكّد الرّازي الحكم نفسه بقوله:"وأمّا قوله
تعالى "ولا تنكحوا ا لمشركين حتى يؤمنوا" فلا خلاف ههنا أنّ المراد به الكلّ وأنّ
المؤمنة لا يحلّ تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة". أمّا القرطبي
فقد اقتصر على بيان إجماع الأمّة "على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه". ووضّح في
موضع آخر من تفسيره أنّ آية "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" قد نسخت ما كان جاريا به
العمل في مسألة النكاح، إذ "كان الكفّار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون
المشركات ثم نسخ ذلك في هذه الآية فطلّق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكّة
مشركتين" . وأثبت ابن كثير على غرار سابقيه أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" تضمّنت
حكما بتحريم تزويج "الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى "لا هنّ حل لهم
ولا هم يحلّون لهن " إنّ ما يسترعي الانتباه في خطاب هؤلاء المفسرين إلحاحهم على
أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" هي من آيات التحريم وهي بذلك نص قطعي الدلالة يستوجب
العمل به كما أنّ أغلبهم قدّموا تفاسيرهم دون التوسّع في البحث عن أسباب النزول، أي
الوضعيّة الاجتماعية التي اقتضت مراعاة بعض المصالح، والتي تجعل المنع مقبولا داخل
تلك الوضعية. أضف إلى ذلك أنّ المفسّرين عرضوا آراءهم بكلّ سهولة وارتياح بصفتها
التفاسير الحقيقية "لكلام الله" معتقدين أنّهم قادرون على تفسير هذه الآيات بشكل
كامل ودقيق وصحيح بكلّ معانيه ومقاصده لذلك قالوا ببراءة "يقول الله". و هذه
التفاسير تمثّل قراءة حرفية للآيات وهي تغلّب الاعتبارات الاجتماعية على سواها. كما
أنّها مرتبطة بنوعيّة الثقافة وحاجات المجتمع، وبالمواقع العقائدية لكلّ مفسّر.
ويقودنا الاطلاع على المدوّنة الفقهية إلى نفس النتائج، إذ نقل عن الإمام سعيد بن
المسيّب قوله:"لا يجوز أن ينكح المشرك المؤمنة وإن كانت زانية" . وجاء في مدونة
مالك "عن سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زياد. قال سمعت زيد بن وهبه الجهنيّ يقول:
كتب عمر بن الخطّاب يقول: إنّ المسلم ينكح النصرانية ولا ينكح النصرانيّ المسلمة
قال: يزيد بن عياض: وبلغني عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: لا ينكح اليهودي المسلمة
ولا النصراني المسلمة عن ربيعة أنّه قال: لا يجوز للنصراني أن ينكح الحرّة المسلمة"
. ومعنى ذلك أنّه يجوز للنصراني أن يتزوج الأمة المسلمة وهو رأي ذهبت إليه الأخنسية
والصفرية من الخوارج. أمّا ابن رشد فقد اكتفى بالقول "إن المقصود من الآية .....
تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر والله أعلم". والجدير بالتسجيل أنّ
الفقهاء آثروا التطرّق إلى مسألة زواج المسلمة بغير المسلم لا ابتداء، أي قبل إبرام
العقد، وإنّما انتهاء فاهتمّوا بوضعية المرأة التي تسلم تحت الكافر والمرأة المسلمة
التي يرتدّ زوجها وتوسّعوا في بيان كيفية التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين. لئن
حرص العلماء على إثبات أنّ حكم زواج المسلمة بغير المسلم هو "حكم الله الذي لا يحلّ
لأحد أن يخرج عنه" ، فإنّ المطّلع على التراث التفسيري والفقهي لا يمكنه أن يغضّ
الطرف عن اختلاف هؤلاء حول تحديد دقيق لمصطلح "الشرك" وحرص أغلبهم على اعتبار أهل
الكتاب من المشركين، رغم وعي بعضهم بالفصل القائم في النص التأسيسي بين أهل الكتاب
وبين المشركين واقتناع البعض الآخر بضرورة التفريق بين المشرك الحربي والمشرك غير
الحربي . ولا يمكن للدارس إلاّ أن يتساءل عن أسباب تغييب رأي من اعتبر أنّ حكم حظر
زواج المسلمة بغير المسلم، إنّما هو حكم متعلّق بمشركي مكّة الذين ناصبوا الدين
الجديد العداء سياسيا واجتماعيا فانهالت عليهم التقريعات بشدّة متزايدة، حتّى وإن
لم يتجرّأ صاحبه على القول إنّ الحكم لا يشمل أهل الكتاب الذين سكت عنهم النصّ
التأسيسي. كما أنّ ما يلفت الانتباه في موقف العلماء اختلافهم حول مسألة نسخ بعض
الآيات للبعض الآخر. جاء في "الاستبصار" في هذا الشأن "عن زراره بن أعين، عن أبي
جعفر عليه السلام قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب، قلت: جعلت فداك. وأين تحريمه ؟
قال: قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وعن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام عن قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال: هي
منسوخة بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) . ومهما يكن الأمر فإنّ الاستنتاج الذي
نتوصل إليه بعد استعراض آراء القدامى هو اتفاق أغلبهم على رفض إنكاح المسلمة غير
المسلم، وهو موقف يماثل ما كان معمولا به لدى اليهود والنصارى. ففي التوراة أنّ
النبيّ إبراهيم نهى ابنه إسحاق عن التزوج بالكنعانيات لأنّهن وثنيات، وأمره أن
يتزوّج من بنات عشيرته اللاّتي يتّبعن ملّته. وقد نهت التوراة بعد ذلك بني اسرائيل
أن يتزوجوا من الشعوب الأخرى التي كانت تجاورهم. وقد تأكّد هذا التحريم في التلمود
وفي التقنين اليهودي. وكذلك حرّمت الكنيسة الزواج المختلط منذ عهد الإمبراطور
قسطنطين الأول ثم أجاز القانون المسيحي للنصراني أن يتزوج بغير نصرانية شريطة أن
تنتقل إلى دينه.
وإذا تبيّن لنا اتفاق العلماء على منع زواج المسلمة بغير المسلم فما هي مختلف الحجج
التي ساقها هؤلاء لتبرير المنع؟
1-السير على نهج السلف لا خفاء أنّ حاجة الفقهاء إلى إضفاء الشرعية الدينيّة على
الحلول التي اختاروها والأحكام التي استنبطوها في ظرف تاريخي له خصوصيته، هي التي
دفعتهم إلى البحث عن أحاديث نبويّة تطرّقت إلى النكاح عقدا، أو ممارسة ليعزّزوا بها
مواقفهم وإلى التنقيب في سيرة السلف عن مرتكزات يؤسسون عليها أحكامهم ومن ثمّة نرى
أنّ هؤلاء قد حرصوا على ربط كل حكم بأمر مماثل في القرآن والسنة. ومن هذه الأحاديث
ما انفرد الطبري بروايتها قال: "عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا وعلّق الطبري على
هذا الحديث بقوله: "هذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من
الأمّة على صحّة القول به" . أمّا ابن حزم فقد كرّس جهده لجمع الأخبار التي تناقلها
الرواة حول سيرة عمر بن الخطاب الذي اشتهر بموقفه المتشدد من زواج المسلمين بغيرهم
من أهل الملل والنحل التي لا تدين بالإسلام، وإلحاحه على ضرورة التفريق بين الزوجين
متى أسلمت المرأة تحت ’الكافر’، ووجوب فسخ نكاح المرأة التي ارتدّ زوجها. قال ابن
حزم: "وعن عمر أيضا قول ثالث رويناه من طريق حمّاد بن سلمة عن داود الطائي، عن زياد
بن عبد الرحمان أنّ حنظلة بن بشر زوّج ابنته وهي مسلمة، من ابن أخ له نصراني فركب
عوف بن القعقاع إلى عمر بن الخطاب فأخبره بذلك فكتب عمر في ذلك: إن أسلم فهي امرأته
وإن لم يسلم فرّق بينهما. فلم يسلم ففرّق بينهما. ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا عباد
بن العوّام عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن علقمة أنّ عبادة بن النعمان التغلبي
كان ناكحا بامرأة من بني تميم فأسلمت فقال له عمر بن الخطّاب: إمّا أن تسلم وإمّا
أن ننتزعها منك فأبى فنزعها عمر منه .... ومن طريق حمّاد بن زيد بن أيّوب السختياني
عن عكرمة عن ابن عبّاس في اليهوديّة، أو النصرانية تسلم تحت اليهوديّ، أو النصرانيّ
قال: ففرّق بينهما: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وبه يفتي حمّاد بن زيد. ومن طريق
عبد الرزاق عن أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبد الله يقول: نساء أهل الكتاب لنا حلّ
ونساؤنا عليهم حرام".
لا مراء أنّ المدوّنين والعلماء أضفوا على هذه الروايات وغيرها مسحة من القداسة
ورفعوها إلى مستوى الأحاديث المسندة. وممّا لا شك فيه أنّ حرص القدامى على المنافحة
على الإسلام هو الذي جعلهم يعتبرون أنّ ما فعله الجيل الأوّل هو عين الحقّ وما على
الخلف إلاّ الاهتداء بهديهم والسير على نهجهم والخضوع لأحكامهم. وهكذا ارتقت هذه
الاجتهادات إلى مستوى المقدّس وصارت حجّة قاطعة ملزمة كيف لا وهي تجسّد القيم
المشتركة وتشعر الفرد بانتمائه إلى أمّة تعتمد على مثال أعلى ومن ثمّة تنصهر
الجماعة في بعضها البعض، ويلتحم بعضهم ببعض.
تشهد المجتمعات الإسلامية المعاصرة صراعا حادّا بين أنصار الحداثة الذين يكرّسون
جهودهم لتجديد بنى المجتمع، وقراءة تراثه قراءة تراعي المستجدات، وتؤمن بضرورة
إقرار الحريّات الأساسية وإرساء حقوق الإنسان..
ودعاة العودة إلى "الإسلام الحق" الذين يلحون على أنّ اختيارهم هو السبيل الوحيد
لإنقاذ الأمّة وتحقيق الرقي، وذلك لأنّهم وحدهم العليمون بكنه النص. فلا غرو إذن أن
يكثر الجدل ويشتد النزاع حول جملة من القضايا المطروحة اليوم على الفكر الإسلامي
والتي باتت تتطلّب حلولا جذرية وحسما قاطعا. ولعلّ أهمّ هذه المسائل ما يترتب عن
ثنائية الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية. وقد اخترنا أن نتوقّف عند قضية زواج
المسلمة بغير المسلم، التي أثارت ردود فعل متباينة خاصة بعد أن صادقت مثلا تونس في
4 ماي 1967 على اتفاقية نيويورك التي بمقتضاها تمنح المرأة حريّة التزوج بمن تختاره
دون أي اعتبار للجنس والعنصر والدين . لقد انقسم المفكّرون المحدثون إلى فريقين:
فئة تمسّكت بموقف الإباحة ونادت بضرورة تمكين المرأة من حقها في اختيار شريك حياتها
دون وصاية مثلما هو الحال بالنسبة إلى الرجل ودعت إلى القضاء على التناقض الذي توسم
به جملة من النصوص التشريعية الحديثة. أمّا الفئة الثانية فقد أصرّت على تحريم هذا
النوع من الزواج محتجّة بنصوص قرآنية وأحكام فقهيّة وفتاوي، مغلّبة الاعتبارات
الاجتماعية على سواها. ولمّا كان أنصار الرفض المطلق لزواج المسلمة بغير المسلم هم
الذين يمثّلون أكبر نسبة فقد ارتأينا أن نقوم في القسم الأول من هذا البحث بعملية
استقراء للتراث التفسيري والفقهي علّنا نتوصّل إلى فهم الآفاق الفكرية والظروف
التاريخية التي أفرزت ظهور مثل تلك الآراء ثمّ عمدنا في قسم ثان إلى استعراض مواقف
المحدثين من مسألة زواج المسلمة بغير المسلم موضّحين الخلفيات التي تكمن وراءها.
أما القسم الثالث فقد خصصّناه لتحليل النتائج المترتبة عن ثنائية الفقة الإسلامي
والقوانين الوضعية.
1- مواقف المفسّرين والفقهاء من زواج المسلمة بغير المسلم
لا خفاء أنّ تلمّس أبعاد هذه المسألة يكون أوّلا بعرض ما احتوى عليه النصّ التأسيسي
من آيات تتعلق بزواج المسلمة بغير المسلم. جاء في القرآن: "وَلاَ تَنْكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" من الواضح أنّ الخطاب
في هذه الآية متعلّق أساسا بالمشركين والنهي فيه يتوجه إلى الرجال والنساء على حدّ
السواء، ولكن كيف كان فهم المفسّرين القدامى لهذه الآية ؟
كان اهتمام هؤلاء منصبا على القسم الأول من الآية، إذ أنّهم ذكروا سبب النزول
وفصّلوا القول في مفهوم المشركات، فإذا هنّ حسب البعض المشركات من أهل مكّة، أي من
أهل الحرب ، بينما ذهب آخرون إلى أنّ المشركات هنّ من العرب الذين ليس فيهم كتاب .
ورأت فئة أخرى أنّ المشركين هم عبدة الأوثان، واعتبرت فئة أخرى أنّ المشرك هو
الكافر سواء كان كتابيا، أو غيره . ولم يتوان الطبري عن الإشارة إلى اختلاف
المفسّرين حول هذه الآية فقال:"اختلف أهل التأويل في هذه الآية هل نزلت مرادا بها
كلّ مشركة أم مرادا بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها
شيء أم لا ؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تحريم نكاح كلّ مشركة على كلّ مسلم من أيّ
أجناس الشرك كانت: عابدة وثن كانت، أو كانت يهوديّة أونصرانية أومجوسيّة أوغيرهم من
أصناف الشرك ثم نسخ تحريم أهل الكتاب بقوله:"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أحلَّ لَهُمْ
قُلْ أحِلَّ لَكُمْ الطَيِّبَاتِ". " وفي مقابل ذلك لم يستوف أغلب القدماء القسم
الثاني من الآية حقّه من التحليل والتفحّص. إذ ذهب الطبري مثلا إلى أنّ الله "يعني
تعالى ذكره بذلك أنّ الله قد حرّم على المؤمنات أن ينكحنّ مشركا كائنا من كان
المشرك، ومن أصناف الشرك كان فلا تنكحوهنّ أيّها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام
عليكم، ولأنْ تزوجوهنّ من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله
خير لكم من أن تزوجوهنّ من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله وإن أعجبكم حسبه ونسبه"
. وكما هو بيّن لم يستثن الطبري أهل الكتاب من هذا الحكم، بل اعتبرهم من المشركين
الذين لا ينبغي إنكاحهم المؤمنات. وأكّد الرّازي الحكم نفسه بقوله:"وأمّا قوله
تعالى "ولا تنكحوا ا لمشركين حتى يؤمنوا" فلا خلاف ههنا أنّ المراد به الكلّ وأنّ
المؤمنة لا يحلّ تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة". أمّا القرطبي
فقد اقتصر على بيان إجماع الأمّة "على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه". ووضّح في
موضع آخر من تفسيره أنّ آية "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" قد نسخت ما كان جاريا به
العمل في مسألة النكاح، إذ "كان الكفّار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون
المشركات ثم نسخ ذلك في هذه الآية فطلّق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكّة
مشركتين" . وأثبت ابن كثير على غرار سابقيه أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" تضمّنت
حكما بتحريم تزويج "الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى "لا هنّ حل لهم
ولا هم يحلّون لهن " إنّ ما يسترعي الانتباه في خطاب هؤلاء المفسرين إلحاحهم على
أنّ آية "ولا تنكحوا المشركات" هي من آيات التحريم وهي بذلك نص قطعي الدلالة يستوجب
العمل به كما أنّ أغلبهم قدّموا تفاسيرهم دون التوسّع في البحث عن أسباب النزول، أي
الوضعيّة الاجتماعية التي اقتضت مراعاة بعض المصالح، والتي تجعل المنع مقبولا داخل
تلك الوضعية. أضف إلى ذلك أنّ المفسّرين عرضوا آراءهم بكلّ سهولة وارتياح بصفتها
التفاسير الحقيقية "لكلام الله" معتقدين أنّهم قادرون على تفسير هذه الآيات بشكل
كامل ودقيق وصحيح بكلّ معانيه ومقاصده لذلك قالوا ببراءة "يقول الله". و هذه
التفاسير تمثّل قراءة حرفية للآيات وهي تغلّب الاعتبارات الاجتماعية على سواها. كما
أنّها مرتبطة بنوعيّة الثقافة وحاجات المجتمع، وبالمواقع العقائدية لكلّ مفسّر.
ويقودنا الاطلاع على المدوّنة الفقهية إلى نفس النتائج، إذ نقل عن الإمام سعيد بن
المسيّب قوله:"لا يجوز أن ينكح المشرك المؤمنة وإن كانت زانية" . وجاء في مدونة
مالك "عن سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زياد. قال سمعت زيد بن وهبه الجهنيّ يقول:
كتب عمر بن الخطّاب يقول: إنّ المسلم ينكح النصرانية ولا ينكح النصرانيّ المسلمة
قال: يزيد بن عياض: وبلغني عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: لا ينكح اليهودي المسلمة
ولا النصراني المسلمة عن ربيعة أنّه قال: لا يجوز للنصراني أن ينكح الحرّة المسلمة"
. ومعنى ذلك أنّه يجوز للنصراني أن يتزوج الأمة المسلمة وهو رأي ذهبت إليه الأخنسية
والصفرية من الخوارج. أمّا ابن رشد فقد اكتفى بالقول "إن المقصود من الآية .....
تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر والله أعلم". والجدير بالتسجيل أنّ
الفقهاء آثروا التطرّق إلى مسألة زواج المسلمة بغير المسلم لا ابتداء، أي قبل إبرام
العقد، وإنّما انتهاء فاهتمّوا بوضعية المرأة التي تسلم تحت الكافر والمرأة المسلمة
التي يرتدّ زوجها وتوسّعوا في بيان كيفية التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين. لئن
حرص العلماء على إثبات أنّ حكم زواج المسلمة بغير المسلم هو "حكم الله الذي لا يحلّ
لأحد أن يخرج عنه" ، فإنّ المطّلع على التراث التفسيري والفقهي لا يمكنه أن يغضّ
الطرف عن اختلاف هؤلاء حول تحديد دقيق لمصطلح "الشرك" وحرص أغلبهم على اعتبار أهل
الكتاب من المشركين، رغم وعي بعضهم بالفصل القائم في النص التأسيسي بين أهل الكتاب
وبين المشركين واقتناع البعض الآخر بضرورة التفريق بين المشرك الحربي والمشرك غير
الحربي . ولا يمكن للدارس إلاّ أن يتساءل عن أسباب تغييب رأي من اعتبر أنّ حكم حظر
زواج المسلمة بغير المسلم، إنّما هو حكم متعلّق بمشركي مكّة الذين ناصبوا الدين
الجديد العداء سياسيا واجتماعيا فانهالت عليهم التقريعات بشدّة متزايدة، حتّى وإن
لم يتجرّأ صاحبه على القول إنّ الحكم لا يشمل أهل الكتاب الذين سكت عنهم النصّ
التأسيسي. كما أنّ ما يلفت الانتباه في موقف العلماء اختلافهم حول مسألة نسخ بعض
الآيات للبعض الآخر. جاء في "الاستبصار" في هذا الشأن "عن زراره بن أعين، عن أبي
جعفر عليه السلام قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب، قلت: جعلت فداك. وأين تحريمه ؟
قال: قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وعن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام عن قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال: هي
منسوخة بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) . ومهما يكن الأمر فإنّ الاستنتاج الذي
نتوصل إليه بعد استعراض آراء القدامى هو اتفاق أغلبهم على رفض إنكاح المسلمة غير
المسلم، وهو موقف يماثل ما كان معمولا به لدى اليهود والنصارى. ففي التوراة أنّ
النبيّ إبراهيم نهى ابنه إسحاق عن التزوج بالكنعانيات لأنّهن وثنيات، وأمره أن
يتزوّج من بنات عشيرته اللاّتي يتّبعن ملّته. وقد نهت التوراة بعد ذلك بني اسرائيل
أن يتزوجوا من الشعوب الأخرى التي كانت تجاورهم. وقد تأكّد هذا التحريم في التلمود
وفي التقنين اليهودي. وكذلك حرّمت الكنيسة الزواج المختلط منذ عهد الإمبراطور
قسطنطين الأول ثم أجاز القانون المسيحي للنصراني أن يتزوج بغير نصرانية شريطة أن
تنتقل إلى دينه.
وإذا تبيّن لنا اتفاق العلماء على منع زواج المسلمة بغير المسلم فما هي مختلف الحجج
التي ساقها هؤلاء لتبرير المنع؟
1-السير على نهج السلف لا خفاء أنّ حاجة الفقهاء إلى إضفاء الشرعية الدينيّة على
الحلول التي اختاروها والأحكام التي استنبطوها في ظرف تاريخي له خصوصيته، هي التي
دفعتهم إلى البحث عن أحاديث نبويّة تطرّقت إلى النكاح عقدا، أو ممارسة ليعزّزوا بها
مواقفهم وإلى التنقيب في سيرة السلف عن مرتكزات يؤسسون عليها أحكامهم ومن ثمّة نرى
أنّ هؤلاء قد حرصوا على ربط كل حكم بأمر مماثل في القرآن والسنة. ومن هذه الأحاديث
ما انفرد الطبري بروايتها قال: "عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا وعلّق الطبري على
هذا الحديث بقوله: "هذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من
الأمّة على صحّة القول به" . أمّا ابن حزم فقد كرّس جهده لجمع الأخبار التي تناقلها
الرواة حول سيرة عمر بن الخطاب الذي اشتهر بموقفه المتشدد من زواج المسلمين بغيرهم
من أهل الملل والنحل التي لا تدين بالإسلام، وإلحاحه على ضرورة التفريق بين الزوجين
متى أسلمت المرأة تحت ’الكافر’، ووجوب فسخ نكاح المرأة التي ارتدّ زوجها. قال ابن
حزم: "وعن عمر أيضا قول ثالث رويناه من طريق حمّاد بن سلمة عن داود الطائي، عن زياد
بن عبد الرحمان أنّ حنظلة بن بشر زوّج ابنته وهي مسلمة، من ابن أخ له نصراني فركب
عوف بن القعقاع إلى عمر بن الخطاب فأخبره بذلك فكتب عمر في ذلك: إن أسلم فهي امرأته
وإن لم يسلم فرّق بينهما. فلم يسلم ففرّق بينهما. ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا عباد
بن العوّام عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن علقمة أنّ عبادة بن النعمان التغلبي
كان ناكحا بامرأة من بني تميم فأسلمت فقال له عمر بن الخطّاب: إمّا أن تسلم وإمّا
أن ننتزعها منك فأبى فنزعها عمر منه .... ومن طريق حمّاد بن زيد بن أيّوب السختياني
عن عكرمة عن ابن عبّاس في اليهوديّة، أو النصرانية تسلم تحت اليهوديّ، أو النصرانيّ
قال: ففرّق بينهما: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وبه يفتي حمّاد بن زيد. ومن طريق
عبد الرزاق عن أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبد الله يقول: نساء أهل الكتاب لنا حلّ
ونساؤنا عليهم حرام".
لا مراء أنّ المدوّنين والعلماء أضفوا على هذه الروايات وغيرها مسحة من القداسة
ورفعوها إلى مستوى الأحاديث المسندة. وممّا لا شك فيه أنّ حرص القدامى على المنافحة
على الإسلام هو الذي جعلهم يعتبرون أنّ ما فعله الجيل الأوّل هو عين الحقّ وما على
الخلف إلاّ الاهتداء بهديهم والسير على نهجهم والخضوع لأحكامهم. وهكذا ارتقت هذه
الاجتهادات إلى مستوى المقدّس وصارت حجّة قاطعة ملزمة كيف لا وهي تجسّد القيم
المشتركة وتشعر الفرد بانتمائه إلى أمّة تعتمد على مثال أعلى ومن ثمّة تنصهر
الجماعة في بعضها البعض، ويلتحم بعضهم ببعض.
الأربعاء مايو 25, 2011 4:03 pm من طرف samii
» يصدرمرسومين لتنظيم الملكيات الزراعية ومخالفات
الأربعاء مايو 25, 2011 3:47 pm من طرف samii
» أهمية علم النفس والطب النفسي في القضاء
الجمعة يناير 14, 2011 8:07 am من طرف الشيماء
» طلب مساعدة
الخميس ديسمبر 23, 2010 6:05 pm من طرف د.أيمن
» هل يجوز اجراء الكشف والتحقيق المحلي من قبل القاضي العقاري في
الخميس يناير 14, 2010 11:41 pm من طرف sharinolo
» تجربة
السبت سبتمبر 19, 2009 8:00 pm من طرف السراب
» روابط الكتب في المكتبة القانونية
الثلاثاء يونيو 02, 2009 5:15 pm من طرف السراب
» دراسة في التاجر من الناحية القانونية
الإثنين مارس 23, 2009 5:50 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الاثبات الجنائي
الإثنين مارس 23, 2009 5:41 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التحكيم في اطار المنظمة العالمية للملكية الفكرية
الإثنين مارس 23, 2009 5:28 am من طرف سيف العرب
» دراسة عن التعاقد بطريقة المراسلة
الإثنين مارس 23, 2009 5:14 am من طرف سيف العرب
» دراسة في الانواع الشائعة لعقود المعلوماتية
الإثنين مارس 23, 2009 5:09 am من طرف سيف العرب
» دراسة في التحكيم واهميته
الإثنين مارس 23, 2009 4:57 am من طرف سيف العرب
» الالتزامات المترتبة على البائع عند قيام عقد البيع
الإثنين مارس 23, 2009 4:50 am من طرف سيف العرب
» أسباب العنف والجرائم في تقرير الأمم المتحدة
الإثنين أبريل 28, 2008 3:19 am من طرف سيف العرب
» ظاهرة الادمان على المخدرات- علم اجرام - سورية
السبت أبريل 19, 2008 10:52 pm من طرف ابن سوريا
» الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل قانون السير والمركبات2008
الخميس أبريل 17, 2008 11:23 pm من طرف سيف العرب
» قانون الشركات 2008
الخميس أبريل 17, 2008 10:52 pm من طرف سيف العرب
» قانون المنافسة ومنع الاحتكار
الخميس أبريل 17, 2008 10:31 pm من طرف سيف العرب
» القانون رقم 4 للعام 2008 الخاص بالتحكيم
الخميس أبريل 17, 2008 10:23 pm من طرف سيف العرب